كنت أمازح عدداً من الأصدقاء المنفعلين، أكثر من اللازم، بتلك الفوضى العارمة التي يمارسها أتباع "ثورة السيسي الدينية"، يتقدمهم فريق الشوباشية الباريسيين، ومعهم ذلك الداعية مفتول العضلات، الهارب من حلقات المصارعة الحرة إلى ساحات الفتوى التلفزيونية.قلت إن مسرحية خلع الحجاب ستنتهي بلافتة ضخمة مكتوب عليها "عاش أمير المؤمنين الإمام السيسي الذي أوقف مسخرة الشوباشية"، بالنظر إلى المنهج الموروث من كل النُّظُم الفاسدة المستبدّة، والذي يعتمد أسلوب إشعال الحرائق، وتركها تمتد وتنتشر وتنذر بالجحيم، ثم يظهر الزعيم الملهم في لحظة درامية مؤثرة، كي يطفئها، فتشتعل الحناجر بالهتاف لحكمته، وتلتهب الأكف بالتصفيق لحنكته، وغيرته على قيم المجتمع.وأمس، كان الزعيم يرتدي ملابسه الرياضية، ويخطب في طلبة الكلية الحربية عن نظريته بشأن تجديد الخطاب الديني، في سياق ثورته الدينية التي اندلعت فجأة لمناسبة حادث الاعتداء على مجلة الكاريكاتير الفرنسية "تشارلي إيبدو".الزعيم تقمّص شخصية المجدّدين من علماء الدين، أمثال محمد عبده والأفغاني ومحمد رشيد رضا، وامتشق الميكروفون، وقال إن بعضهم فهم ثورته الدينية ودعوته لتجديد الخطاب خطأ، وأنه كان يقصد أن تضطلع بهذا الدور المؤسسات الدينية في الدولة، وليس غيرها، في إشارة إلى باعة التديُّن الفاسد الجائلين على الشاشات الانقلابية، وأولئك الذين حشدوا لمليونية الخلع والقلع، رافعين شعار "احرقي حجابك في حب مصر"، أو أصحاب هولوكوست الكتب الإسلامية في المدارس، ممّن اعترفوا بأنهم فعلوا ما فعلوه بإيعاز من جهات سيادية.والحاصل أن الزعيم محقّ في قوله، بصرف النظر عن أنه لا يعرف معنى "تجديد الخطاب الديني"، ولا يستطيع أن يقرأ صفحة واحدة من مؤلفات الفكر الإسلامي قراءة صحيحة (يكفي قوله: سوف أحاجيكم يوم القيامة، لتعلم أنك أمام شخص مقطوع الصلة بالثقافة العربية والفكر الإسلامي).ذلك أن السياق الذي أطلق فيه دعوته للثورة على الموروث الإسلامي (سياق المزايدة على الفرنسيس في حادث تشارلي إيبدو)، كان حافلاً بالغضب المتربّص بالفكر الديني الإسلامي، وليس فقط التطرف الآتي من مجموعات وحركات تنتسب للإسلام السياسي، ومن ثم كان المستهدف ممّا تسمى تجاوزاً "ثورة السيسي الدينية" هو الخارج، وليس الداخل. كان يخاطب الغرب بما يحب ويرضى، على طريقة تجار الأدب العربي الذين كانت أعينهم على المترجمين الأوروبيين، قبل القارئ العربي، وبالتالي يكتبون "أدباً للتصدير".أما القول إنه كان يعني بدعوته لتجديد الخطاب، المؤسسات الدينية، فهو غير صحيح، ذلك أن السيسي وجّه انتقادات لاذعة، حد الإهانة، للأزهر الشريف، في غير مناسبة، كما سمح لقطعانه من ذئاب الفضائيات بالنهش والطعن في الأزهر، جامعاً وجامعة، حتى راجت تسريبات وشائعات حول اعتزام شيخ الأزهر الانسحاب والاعتزال، غضباً من الإساءات اليومية، القادمة من إعلاميين ومنتحلي صفة الدعاة، من نوعية ذلك البحيري الذي قال، صراحةً، إن السيسي يردد، في لقاءاته الصحافية، ما يقوله الداعية الفتوّة في برنامجه، طارحاً نفسه بأنه الوعاء الإعلامي لفكر زعيم الثورة الدينية.وإجمالاً، يمكن القول إن الفترة الماضية، وتحديداً منذ "فتاوى الإمام السيسي لصحيفة وول ستريت جورنال" قبل أسابيع، شهدت موجة عاتية من الازدراء والاحتقار للمؤسسات الدينية الرسمية، مع فتح الأبواب والنوافذ لكل من هبّ ودبّ من تجار دعوة، وسماسرة تنوير، للذهاب بما يسمى "تجديد الخطاب الديني" إلى مناطق شديدة الوعورة، بدا معها أن المستهدف ليس التجديد، بقدر ما هي رغبة محمومة في التأسيس والتأصيل لحالة من الخلاعة المجتمعية، والتهتك القيمي، في الحياة المصرية، على نحو ولّد ردود فعل عكسية، استشعرت معها السلطة أن السحر سينقلب على الساحر، لا محالة، وأنه، من حيث أرادوا الإمعان في تكريس حالة التغييب والتغريب عن القيم المستقرة، بدأ المواطن يدرك أنه وقع فريسة لعملية انتهاك للثوابت، تصوّب أسلحتها الثقيلة لوعيه ووجدانه، وكأن المطلوب، ليس فقط تجريد المرأة من حجابها، بل تجريف المجتمع من قيمه وأخلاقياته.وهنا، أدرك الزعيم أن "ثورته الدينية" بضاعة خاسرة، في سوق ليست مهيّأة لاستهلاك هذا النوع من المنتوجات المعدّة للتصدير، فقرّر أن يتخلّص منها، لتخرج منصاته الإعلامية بتتر عريض، يقول "الزعيم ينتصر لصحيح الدين، ويرد الأمور إلى نصابها".