مصطفى النجار


«لا أحد يسمعنا أو يشعر بنا، العدالة بعيدة عنا والأمل يتضاءل فى تصحيح المسار، فرقوا بيننا وبين أهلنا لا لجرم اقترفناه بل لأننا أصحاب موقف لا يوافق هواهم، نحن ندفع ثمن الصمت والتجاهل لقضيتنا، كلكم تعلمون أننا لم نخالف القانون ولا توجد تهم حقيقية تبرر سلب حريتنا وإنهاك إنسانيتنا، لذلك لم يعد لدينا ما نخسره، اليوم ليس لنا إلا معركة الأمعاء الخاوية فلا نملك سوى الجسد لنناضل به ونكشف ما أصابنا من ظلم ونطلب حريتنا التى كبلتها زنازين السجون».
هذا حديث من أعلنوا إضرابهم عن الطعام داخل السجون من المعتقلين السياسيين الذى ينتمى أغلبهم لجيل الشباب. ورغم اختلاف مرجعياتهم الفكرية والسياسية إلا أن هذا الجيل قرر أن يخوض معركة سلمية جديدة يواجه بها السلطة التى لم تلتفت لنداءاته والتى مازالت تصر على معاداة جيل كامل ومطاردة أبنائه إما بالسجن والاعتقال، وإما بالتضييق والاقصاء أو الاغتيال المعنوى وحروب التشويه والتخوين التى لا تتوقف عبر وسائل إعلام موالية تؤدى دورها باقتدار فى زرع الكراهية.
محمد سلطان هذا الشاب الذى مر عام على اعتقاله دون الحكم عليه بأى شىء يدينه تجاوز اضرابه عن الطعام مائتى وثلاثين يوما ويكاد يهلك من فرط تعبه ومرضه لكنه لم يكسر إضرابه عن الطعام، وقال لهم ماذا يختلف الموت بسبب الجوع عن الموت من شدة الظلم وسلب الحرية؟ أما إبراهيم اليمانى الطبيب الشاب الذى تجاوز اعتقاله أيضا عام كامل يدخل إضرابه عن الطعام يومه المائة والخمسين ويقول لمن يطلبون منه فك الاضراب: فلتمت أجسادنا لتبقى شاهدة على ظلم لم نستطع أن نرفعه وصمت عنه الناس.
لا يختلف الوضع كثيرا عند أحمد دومة الذى تقول زوجته إن زوجها يحتضر بعد إضرابه عن الطعام وانتكاس حالته الصحية، ولحقت به سناء سيف الفتاة العشرينية التى رأت مع عائلتها ملحمة من الحزن والألم ستظل سوطا يهوى على ضمائرنا ويوجعها. ومع كتابة سطور هذا المقال يرتفع عدد المضربين عن الطعام من المعتقلين السياسيين إلى 400 معتقل يساندهم مئات المضربين عن الطعام خارج السجون سواء فى نقابة الصحفيين أو المجلس القومى لحقوق الانسان، وكذلك يدعمهم عدة آلاف ممن أعلنوا إضرابهم عن الطعام على صفحاتهم الشخصية بمواقع التواصل الاجتماعى.
•••
حتى الآن لا تدرك السلطة مدى رمزية هذه المعركة السلمية التى يتصاعد وهجها يوما بعد يوم وتتسع دائرتها لتتحول إلى ملحمة سلمية يناضل بها من يشعرون بأن العدالة لم تنصفهم بعد أن فقدوا الأمل فى أن تتراجع السلطة عن قانون التظاهر الذى سجن بسببه أغلب هؤلاء الشباب، رغم أنه قانون معيب مخالف للدستور تم فرضه من جانب سلطة غير منتخبة خلافا على إجماع القوى السياسية والمجتمع الحقوقى. ويدفع كثيرا من المعتقلين الثمن الآن بسبب هذا القانون بالإضافة لمعتقلين آخرين لم يتورطوا فى عنف ولا إرهاب ولكنهم وقعوا فى كمين الحبس الاحتياطى الذى صار عقوبة بحد ذاته.
معركة الأمعاء الخاوية سلاح يستخدمه المقهورون لمواجهة الظلم وللتأكيد على الإيمان بالسلمية كمنهج لا حياد عنه. ولو كان هؤلاء مذنبون أو مجرمون ما خاطروا بحياتهم من أجل قضيتهم ولكنهم أصحاب مبدأ ورسالة لذلك لا يعنيهم استمرار الحياة طالما كان الموت من أجل الحرية التى يستحقونها.
بئس الأصوات القميئة التى خرجت تزايد على هؤلاء المضربين عن الطعام وتندد بفعلهم، فبدلا من أن يتحرك هؤلاء المزايدون الذين تحولوا لأبواق للسلطة ومبررين لكل الانتهاكات لرفع الظلم عن الشباب والتضامن معهم إذا بهم يهاجمونهم ويصل التدنى ليقول أحدهم ( وهل نفرج عن اللصوص إن أضربوا عن الطعام )، والحقيقة أن اللصوص هم من يسرقون أحلام الشباب ويغتالون آمال الوطن وينحازون للظلم ويجملون صورته!
•••
لا بديل عن إلغاء قانون التظاهر الحالى بصورته الجائرة وتعليق عقوباته بالتوازى مع الإفراج الفورى عن كل المعتقلين السياسيين الذين لم يثبت عليهم شىء والذين ألقى كثير منهم خلف الأسوار عبر اعتقالات عشوائية أو وشايات متدنية أو عقابا على رأى وموقف لم يتجاوز حدود السلمية.
الصمت والتبرير صار مشاركة فى قتل هؤلاء والقضية واضحة لا لبس فيها، قمع المعارضين واستنزافهم بالسجن والتشويه والملاحقة يضر السلطة أكثر مما ينفعها. ولو وُجد عقلاء وطنيون ينصحون السلطة لكانت النصيحة الأولى الآن هى الإفراج غير المشروط عن كل المعتقلين السياسيين وفتح صفحة جديدة عبر تهدئة فورية على كل المستويات لإيقاف الحرب على الشباب.
لن يتحمل الوطن مزيدا من استعداء شبابه ومحاربتهم، لن يتحمل الوطن مزيدا من أنات المظلومين وصرخات المقهورين، تصالحوا مع جيل هو القادر على بناء مصر، لن نرى المستقبل إلا بحرية هذا الجيل وكرامته وتقديره فهل نريد المستقبل؟